أوجدنا هذا المتحف عربون وفاء وتقدير للدكتور عصام حداد الذي أهدى الأدب المهجري جائزة أدبية تحمل اسم: شربل بعيني

سنديانة مار روحانا/ الدكتور عصام حداد

موجعٌ، مفجع، رحيلك يا رفيقة الدهور
لقد هُدَّت معك خمسمئة عام من الأصالة والضيعة القديمة، ولم يبقَ غيرُ الذكريات
كرجنا نطوفُ بالدنيا حواليكِ، تَميسينَ بأغصانك الدائمة الإخضرار.
تعلّمنا (الألف باء ) على المقاعد الحجرية تحت أفيائك وودّعنا آخر النبضات من الآباء والأمّهات.
وكبرتِ وكبرنا، وانت تملأين بجبروتك الساحات، والى الآفاق تمدّين اليدين.
في جوف جذعك المتسامي الضخم، كنا نتخبَّأ من الأيّام، فتحتوين عمرنا بحنان، وتعاطين عمرَنا أطيبَ السكرات.
وها قد قذفتنا الحياة في هوّة العدم، وبقيت راسخةً بعنادك، تتوكأ عليك الأجيال وتُفيّئين مقابر المباركين الأنقياء.
زرعنا عندك مرحَ الطفولة ونزق الشباب وصبوة الكهولة ، وبقيت مُنتشية بشبابك الدائم عبر السحاب.
لكم غنّيت مع المغنّين ، وبكيت مع الحزانى، وصلّيت مع المصلّين.
وها هم كلهم وافوا لوداعك بوحشةٍ وقهرٍ والتياع.
كم استرسلتِ فوق حوض المعموديّة في مهرجان طفل! وفوق نعش وهَفهَفَت طرحة عرس! وتباهت قَيمَة الجرن والمخل بزنود البطولة، ولوّحت الأيدي بمناديل الوداع! وتلاقى عندك محبّون!.
لم نكن نجرؤ على تسلّق جذعك المُهاب، فكنت تمدّين لنا أغصانك بحنان، لنصل اليه.
لكم احترق عندك قلب، وصلّى قدّيس، وتعالت هيصة وتنامى هتاف، واشتدّت مماحكة ، وانت كرسي الإعتراف حاضنة كلَّ الأسرار.
لكم ترنّحت لدقّات الجرس وللبخور النافح من حقاق المباخر، وللترانيم المرجَّعة من هياكل العبادة وأصداء القلوب الضارعة، وأنين الأرواح الموجعة وأحمال النسيم!
هل مللتِ المجد والجبروت فجفوتِهما وجفوتِنا تترعين الى غير فضاء!؟وهل أضناكِ وعر الطريق فوق هذا التراب؟ هل نبذت جيلنا، جيل الخنافس وحليب البودرة والخنوع؟ بعدما عايشت جيل العباقرة، أهل الوجوه السمر الملوّحة بالتعب الهانئ بوهج الحكمة والمحبة والبهاء؟!
علّمتنا الصبر على مقارعة الأيام، علّمتنا الإيمان والبطولة، الثبات والكرامة، والتشبّث بثقة النفس، علّمتنا الحنان والإرتقاء والعنفوان والتطلّع دوماً الى فوق...
ما تترّلتِ مرّة عن علوّك أيتها الساخرة بالأعاصير. فكلّما هزّتك زعازعها زدتِ رسوخاً وكلّما تمايلتِ معها، علّمتِنا الملاينة والمحاسنة والصمود.
وكلما أعمل بكِ الفأسُ تقتيلاً زدت انبثاقاً وسخااء بالفيءِ، بالنداوة ، بالثمار بالإخضلال، تُملين الدروس والعبر، فما هي القلوب والنفوس تملّع ذاتها على غربتك الجافية، فلا خلجة ولا بهجة ولا مطلّ.
كنتِ تباهينَ شير ( العاصي )، وقبّةَ الجرس التي تغار من اعتزازك، فها هما ينوحان عليك بهلع، إنّ فلذةً من العظمة ضاعت منهما الى الأبد.
بعدك أين تحطُّ النسور، وبأيّ جلال تمسّح مراوحها الأجنحة؟ وعلى أيّة رحاب تبسط رحابها السماء؟!
يا حاضنة الجدود العتاق! لو عاد الى الأرضِ ( موسى ) لكلّم الله، لا من على ( طورسينا ) بل من على أفنانك، واستظّلك بفخار.
من نُودِعُ بعدك كل الخفقة والحشاشة والأهزوجة والتأوُّه والحنين؟!
سنديانة ( السيدة )، اسم الله على شبابها، ما زالت تمعن بالإرتقاء زراعةً هامتها في الأقاصي. هل أَعرتها شبابك لتقحم الآفاق مطمئنة باصرار الى البقاء؟!
ويا حاضنة التاريخ! نحن هنا مع الضوء واللون والعبير، مع الفروخ النابتة منك، في أعمارنا من جديد، نحملك في اخضرار قلبنا النابض مع الأمل الغضّ، الى آخر العمر.

من مخطوطة دفاتر الربيع